هالة الكردي تكتب | أحياءُ أموات
الثلاثاء 21/يونيو/2022 - 02:49 م
هالة الكردي
طباعة
أحياءُ أموات
في غضون إسبوع واحد وحتي اللحظة الحالية شهِدتُ أربعة حكايات لأربعة فتيات في عمر الزهور، أحداهن لم تنجُ مع الأسف وكل الحزن، والباقيات منهن من كانت علي وشك السقوط أو أوشكت وشاء القدير أن ينجيها.
وبدايةً دعونا نتفق أن السقوط أو النجاة ليسا دائما لهما نفس المضمون في سرد الأحداث والملابسات ولكن النهاية حتما إما مؤلمة إما تجعلنا شاكرين حامدين الله علي نعمه التي لا تحصي وأهمها رعاية الله وأمنه.
المشهد الأول: فتاتان جميلتان تدرسان بالجامعة كلتاهما قُتلا علي يد (عاشق) ولكن إحداهما فارقت الحياة فعلاً لا مجازًا بينما تحيا الأخري كالميتة، وبطل الحدث في الروايتين واحد وهو (شاب)، الأول أودي بحياة الأولي بعد ما اتدعي محبتها والهوس الشديد بها وأتضح مؤخراً أن مقولة (ومِن الحب ما قتل) لم تعد مجرد تعبيراً مجازياً نستخدمه حين نصف خوف الأم علي وليدها أو القطة علي صغارها أو حتي في قصة الدب الشهير الذي قتل صاحبه.
فقد قتلها حقا وفعلاً وعمدً ولم يصحو ضميره لحظة واحدة قبل إقدامه علي ذلك الفعل الشنيع، قتلها ولم يتذكر أبدا كلام الله «أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا»، قتلها ولا أعلم أيُ قلبٍ هذا الذي بين ضلوعه إدعي محبتها؟ أوليس من أحب غفر ومن أحب سامح ومن أحب تمني الخير والسعادة لمن أحبه قلبه ومن أحب طاب ولان قلبه ورق لمحبوبه!
ولكن أصبحت تلك المسلمات مشروطة، نعم مشروطة بالبقاء، بقاءها معه وليس مع أخر حتي ولو لم يأذن الله بذلك وكأنه امتلاك، أيُ دينٍ وأيُ فكرٍ وأي عقلٍ ذلك الذي يصيغ تلك المبادئ؟
(رحمةُ الله عليها) وما عسانا إلا أن ندعو لها بأن ينيرُ الله قبرها ويجعلها في الجنة وستظل رغم موتها موجودة في قلوبنا نراها في أنفسنا وفي بناتنا وأخواتنا لعل موتها لا يضيعُ هباءً ويكون سبب إعادة ترتيب أوراقنا وتغيير نظرنا في تربية أبناءنا، وأن ندعو للأُخري التي هي بمثل عمرها وهي علي قيد الحياة نعم ولكن حية بجسدها، وبقلبها تحيا كالأموات والسبب أيضا (شاب) وهذا الأخر إدعي أيضًا محبتها ولكن اعتقد أن هناك لغط في مفهوم كلمة حب في زمننا هذا، فأي حبٍ هذا الذي يدفع الإنسان لأن يبتز قلباً آخر عاطفيًا ليقوده للجنون؟ لماذا تدفع هؤلاءِ الفتيات ضريبة مرض النفوس والعقول غير السوية وسوء تربية هؤلاء الفتيان؟
بدايةً جاءتني لتطلب مني مساعدتها في البحث عن طبيب نفسي وفي عينيها بحور دموع تشكو وتستنجد لأنها علي وشك الإنهيار والسقوط في هواجس الاكتئاب وهي في ربيع عمرها، سمعتها بإنصات شديد وهي تصف نفسها بإنها لا تصلح لأي شيء فالحياة، لا تصلح لأن تكون رفيقة أو حبيبة أو زوجة أو أم أو شخص يُعتمد عليه في العموم، وكل ذلك ثمار ما زرعه ذلك الشاب ورسخه في باطن عقلها بعدما سخر كل طاقته وقوته للحصول علي قلب تلك الفتاة التي لطالما وجدها عملة نادرة وحينما أيقن أنه وصل لمبتغاه بدأ في إحباطها إرضاءً لغرورهِ كرجُل يمارس قوته علي مخلوق أضعف منه ويتلذذ بنجاحه في إذلالها عِوضاً عن تعبه والمجهود الذي بذله قبل أن يستحوذ عليها مطلقا، أفقدها الثقة بنفسها ورسخ في تفكيرها الفشل دونه والوِحدة في البُعد عنه وأصبح عاشق الأمس هو جلاد اليوم الذي لا يستخدم في عقابه سوطاً أو عصا بل الأقسي من ذلك وهو تحطيم قلب وعقل تلك الفتاة، كانت باكية مستنجدة أنا مريضة وبحاجة إلي طبيب يعيد تأهيلي ويشفي علتي ولكن بداخلي تساءلت متي كان المريض النفسي حقًا يعلم بوجود علة به؟ فالمريض النفسي هو أخر من يعلم بذلك وعادةً ما يذهب للعلاج بدفعة قوية من المحيطين به، لم تستطع الفتاة إنشاء علاقات جديدة فهي بالطبع تخشي الكلام خوفاً من زلة لسان قد تنهيها قبل أن تبدأ وبذلك فضّلت البقاء وحيدة بعيدة عن الأنظار، تخشي التحدث مع العملاء بعملها خوفاً من أن تفقد وظيفتها اذا تلعثمت ولا تعلم أنها بذلك علي وشك فقدِها، والسبب ذاته هو ترسيخ فكرة الفشل في أعماقها لتكون دائما وأبداً تابعًا.. فرحمة الله بها وأسأل الله أن يحفظ لها قلبها وألا تضيع أجمل سنين عمرها في تلك العلاقة المؤذية التي إن انتهت بالزواج فقد بدأت معها سكرات موتها.
المشهد الثاني: فتاتان كانتا من أجمل بنات جيلهن، صديقتان مقربتان للغاية، إحداهما تزوجت مبكراً وأكرمها الله باطفال بنين وبنات وزوجٍ حنون مُجدٍ لا يسعي في الحياة إلا لسعادتها وسعادة بيته ولكن كأي زواج مبكر لفتاة في سنٍ صغير وفي مجتمع كالذي نعيش فيه الآن فقد يشوبه بعض الفتور والملل الذي قد يقتل في أحيانٍ كثيرة دفء ذلك البيت السعيد، فهذا الزوج لا يستطيع بذل جهدٍ أكبر لإحياء تلك العلاقة وبث الشغف والحياة فيها من جديد وتلك الزوجة صامدة كالوتد متصديةٍ لكل متاعب الحياة رغم حُزن قلبها من أجل هدف أسمي وتنشئة أطفال شاكرين حامدين الله علي نعمه، مقيمي الصلاة في أوقاتها، فأي هدف أسمي من ذلك؟
وعلي الجهة الأخري أري الصديقة المقربة تحيا من متع الحياة منتهاها، فقد وصلت في سن صغير إلي الثراء!!
فهي لم تتزوج بعد ولم تحظ بدفء حياة الفتاة الأخري واستوقفني ذلك التحول الملحوظ في نمط حياتها من حيثُ المظهر والرفقة الأشبه بشياطين الإنس مما جعلني اتساءل هل ذلك التحول كان كرمٍ من الله وقد أنعم عليها بتلك النعم فجأة أم هو ابتلاء أم غضب؟ ومن منهما أحسنت الاختيار؟ ومن منهما الأصلح في الحياة؟
وحينما ساورتني الشكوك وأنا أنظر علي الحياتين تذكرت قوله عز وجل «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»، فمن منهن ضلت ومن منهن استقامت؟ من ضلت من وجهة نظر محدودة سعِدت فالدنيا ومن استقامت حزِنت؟ ورغم ذلك ظل سؤالي قائماً هل هو كرم من الله أم ابتلاء؟
وجاء رد أحد المقربين الذين عايشو ذلك المشهد معي قاطعاً بأن الله إذا غضب علي عبدٍ أعطاه من النعم أكثرها فإنه يُمهل ولا يُهمل.... والله أعلي وأعلم.
وتظل الفتاة (الزوجة) تنظر من نافذة بيتها وتستعيد شريط الحياة التي سرقت عمرها باكراً وكبّلتها بالمسؤليات في بدايةِ عُمرها باكيةٍ حظها العسِر وعلي طرف النافذة المقابل الصديقة التي سلكت الطريق الأسهل للرفاهية والحياة الرغيدة.
كان هدف الأولي الاستقرار والحياة الهادئة والثانية الوصول إلي المال، كلاهما وصل لمبتغاه ولكن في كل تلك المشاهد أذكر قول الله تعالي «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»، ولو أني أخشي الله في أن أحرِّف كلامه وحاشاه ولكن أود لو أن أقول فليعلم كل منا وجهته وإلي أين تقوده أمانيه وأي منقلب ننقلبه وتدبرو ما تتمنو.
وفي النهاية أدعو لنفسي ولكل واحدة منهن بالرحمة والمغفرة والثبات والهداية والأمان والسلامة والبركة في الحياة والرزق بكل صوره وأسال الله أن لا يرضي لنا العيش أموات وإن اقتربت ساعتنا فليُحسن ختامنا وتكون خاتمةٌ غير مخزية ولا فاضحة وأن نترك أثرا صالحًا يكون لنا رحمة.