رئيس التحرير
محمود عبد الحليم
رئيس التحرير التنفيذي
فريد علي
ads

الغامض والملغز وعلاقته بالمقدس.. وما الذي ينقص الملحمة المعاصرة

الإثنين 20/يناير/2025 - 02:47 م
الحياة اليوم
دكتور إسلام يوسف
طباعة
تتحفنا السينما الأمريكية بأفلام ذات ميزانيات خارقة، تلتهم الأسواق المحلية والعالمية، وأصبح كسر الرقم القياسي للأيرادات يتكرر أكثر من مرة في عقد واحد، تكون تلك المشاريع الطموحة مصحوبة بأوصاف –في بعض الأحيان-تكون غير دقيقة، لفظ (الملحمة) دائما ما يتكرر ومصاحب لهذه النوعية من الأعمال، وهو ما يجعلنا نتسائل هل فيلم مثل (أفاتار:طريق المياه )يعتبر ملحمة ؟
هل أي من مشاريع ديزني الخاصة تحت أسم (المنتقمون) ينطبق عليها وصف الملحمة؟
واذا كانت كذلك كيف أصبحت الملاحم الحديثة لا تثير فينا شئ قدسي؟
الحقيقة أن تلك هي الأسئلة الخطأ، والسؤال الوحيد الصحيح هو ما هو الشئ الجوهري للملحمة؟
الشئ الضروري –من وجهة نظرنا- للملحمة، هو وجود شئ سري وغامض وغير قابل للفهم، مستغلق علي الذهن ولكنه منفتح علي المشاعر، هو لا يحركك ذهنيا ولكنه يقلبك وجدانيا.. وهذا السر لابد أن ينتمي لأكتر بقعة مقدسة في اللاوعي ...مقدسة تنقلب عن حد معين إلي  ملعونة.. لكن في كل الأحوال.. رهيبة.
ما الذي يحرك الإنسان ؟!!
                                                                                           
ما يحرك الإنسان هو ما يثير فضوله، ومايثير الفضول يتميز بشيئين، أولا: شيء جوهري مشترك –بيني وبين الشيء أو الموضوع.
ثانيا: هو الغموض، الغموض يخلق من نقص المعلومات أو تحرك الموضوع في أفق غير معلوم.
لكن لماذا الغموض مثير؟
وأنا هنا أتكلم عن الغموض المقدس، بمعني الغموض القائم علي شيء مشترك مع الموضوع والذي يتحرك في آفاق مختلفة.
الأجابة هي أن الغموض يفتح الأفاق، لا يحجم الموضوع، يجلعه ينفتح علي أتساع الكون،يخلق شيء رومانسي في تصورنا للموضوع ، عندما تقول أقل الأشياء وتترك مساحة كبيرة للكون، الكون يتفاعل هنا بكل الأشياء التي لم تكن ممكنة قبل ذلك،أن ما يحركنا ناحية الأشياء هو الفضول للمعرفة،والشخصيات المحدودة،التي دون أفق "ميتافزيقي"، هي شخصيات محدودة الحب، ولن يمارس الحب في حقها لفترة كبيرة، أما الشخصيات غير المحدودة،الشخصيات ذات البعد الميتافزيقي تستطيع أن تحبها بلا حدود، لأن صراعها غير محدود بكلمات، ولا أي كمية من المعلومات ممكن أن تحل أي شئ في هذا الوضع.
ليس من اللازم أن تعرف المجتمعات كل شيء عن بعضها، لأن الأرضية المشتركة موجودة "الأنسانية"، أما بقية التفاصيل والمراحل التأهيلية التي تمر بها المجتمعات فهي خاصة بالمجتمعات ذاتها، وتلخص رحلتها مع الحضارة وطريقة مخاطبتها للمطلق الميتافزيقي، بل أنه من المفيد أن تظل مساحة خاصة لكل مجتمع، مساحة يستطيع الفرد العالمي استكشافها، ومقارنتها مع طريقة، مساحة يتعرف فيها الفرد علي مجتمع أخر، وأرض جديدة ولغة أخري لمخاطبة الأله، مساحة تجعل الفرد الأخر بالنسبة له كأنه رسول من عالم أخر، وذلك يغذي به روح الاكتشاف والطزاجة،وتجعل روحه دائما متأهبة لوسائل جديدة لمخاطبة المطلق ويؤدي بنا هذا لعالم أكثر روحانية.
كيف يمكن استخدام هذا في الفن، وما علاقة هذا بفيلم "الأب الروحي"، الأجابة هي أن الغموض كان عضوي وضروري بهذا الفيلم .. دعنا نشرح أكثر ما حدث مع "مايكل كورليوني".
الأب الروحي "الجزء الثاني"
"الغموض"جزء من لعنة الشخصية
يقول الباتشينو: أردت أن أجسد "مايكل كورليوني" كأنه شخص قادم من" العدم" اللامكان.
بعد أن قام "كوبولا" بأخراج الجزء الأول تحت فرض القيود والمادية والحاح اصدقائه بسبب الديون التي تراكمت علي شركتهم،لم يكن يتوقع كل هذا الصدي بالطبع، ولكنه ظن أن المهمة قد انتهت، ولكنه فوجئ من الاستديو بطلب عمل جزء ثان وهو طلب كان سيرفضه مبدأيا، ولكن عند لحظة ما تذكر والده، وهنا قرر عمل فيلم "فني" علي حد تعبيره عن علاقة الأب بالأبن، وقد كان.
الفيلم الذي يتبع أوهام "مايكل" في السيطرة، بعد أن سيطر علي المافيا بالكامل في الجزء الأول، جاءت الخيانة هذه المرة من داخل العائلة، الخيانة جاءت من أخيه، كأن الفيلمين هما استعارتين عن العالم الخارجي والعالم الداخلي، فيما جاء الجزء الأول دموي ونشط ناحية العالم، جاء الجزء الثاني عدمي ومنسحب من العالم.
عند مناقشة تصوير الفيلم طلب "كوبولا"من "جوردن ويليز" استلهام أعمال الرسام الهولندي "روبنز"
وهو مشهور بالأعمال أحداية المصدر للضوء، والتعبير عن شخصياته بأخفاء أجزاء كبيرة من الشخصية سواء بحيل الضوء أو حركة الشخصية نفسها، لذلك كان "الأب الروحي" ثوريا في اللغة البصرية، فهذا الخيار البصري الذي كان يضيف غموض وجاذبية للشخصيات في الجزء الأول، أصبح يضيف رعب كبير من الشخصيات في الجزء الثاني، لأنه يحجزك عن كم هائل من الخوف والعفن الذي أصبح عليه "مايكل" روحيا، ولكنه أيضا في نفس اللحظة يعطي لك أشارة ولو صغيرة عن أي منطقة في الجحيم ذهب "مايكل".
الفيلم يأتي كمطاردة مستحيلة بين "مايكل" و"أبيه"، أنه يريد أن يلحق به بأي وسيلة رغم علمه باستحالة الأمر، لكننا نجده في مشهد داكن قرب المدفئة، يسأل "أمه" ويقول سؤال أبدي بلا أجابة:"أمي....أخبريني ماذا كان يدور داخل نفس أبي، بماذا كان يفكر؟"
هو سؤال أزلي منذ بدء الخليقة، وعلاقة يفهمها أي صوفي مع الأله، ولكن في نهاية اللقاء يقول لها : "الزمن تغير" !!!
وهو ما يعطيك فكرة عن دولة قامت بلا جذور وعلي تاريخ من العنف، هو ما يعطيك فهما عن لماذا تهدف حضارة هذا العصر إلي قتل الألهه القديمة.
في خضم الصراع والأحداث، نادرا ما يتكلم "مايكل"، نحن لا نعلم ما يدور في نفس هذا الرجل، نحن فقط نري لمحات خاطفة في عيون"الباتشينو"....لمحات تعطيك فكرة عن الجحيم الذي يعبر فيه هذا الرجل،عن الأرض المظلمة التي يعيش بها،عن المدينة القديمة والقلب البدائي الهمجي.
وهو ما يعطيك فكرة عن كيفية الاحتفاظ بسرية الصراع، وكيف أن هذا جعل من تلك الشخصية محل نقاش إلي الأن، أنه هذا الغموض المقدس، وأزمة البطل التارجيدي، وهي أزمة قديمة، قدم البدايات الأولي.
يدرك مايكل في لحظة الاستحالة الميتافزيقية التي وقع فيها، ويقرر قتل أخوة ليبدأ مرحلة أخري من الصراع أقل شراسة، بقتله لأخيه صار مسخ ووضع حدا لمنولوج لا ينتهي، مونولوج ناتج عن استحالة تحقق اللقاء مع الأب، والمعرفة الناقصة،هي معضلة مستحيلة الحل في الواقع، ولكن علي الشاشة تمازج الشخصيين معا، كأن "كوبولا" كان يصيغ قواعد الكون من جديد، ويحقق غايات رومانسية وأماني مطلقة بكاميرته وعينيه وقلبه، في فيلم هو أجمل رسالة حب من "أبن" إلي "أبيه".. رسالة مطلية بالدم.
السرية  كمكون رئيسي في تأسيس المجتمع:
في كتابه "الشامانية وطرق الوجد الصوفي "، يصف "مرسيا الياد"الكثير من مراحل التأهيل التي تتم في القبائل البدائية، وهي في أغلبها تعتمد علي فلسفة واضحة وهي تأهيل الفرد لـ"دور" في المجتمع والكون والدين الذي يحكم القبيلة، ما يحدث مثلا عند دخول الأطفال تقريبا زمنيا لمرحلة المراهقة ،يتم فصل"الذكر"عن أمه ومن هذه اللحظة يعاملها كتاريخ،ويجلب الطفل للغابة ويصنع له وعاء خشبي كبير كمنزل يسكن به منفردا ويترك عدة أيام بمفرده في الغابة ليواجه الأخطار، ويصف "مرسيا الياد"هذا الوعاء أنه رمز للرحم، فالطفل هنا يولد مرة أخري، لابد أن يموت في حياته الأولي ويولد جديدا في الحياة التي تؤهله لها القبيلة، في بعض الأحيان يشرب من دماء القبيلة مجتمعه كعلامة علي نقل الأرث القبائلي له، أو في بعض الأحيان يترك لفترات طويلة في هذا الوعاء دون أكل إلا من أشياء بسيطة لا تقيم الأود ويشرب مياه فقط، في هذه اللحظات يكون الهدف هو التخلص من كل الدهن الجسدي وأن يصير الجسد كغلاف لا يجعلك تفكر به أصلا، بمعني ما هو يريد إزالة الشرط الجسدي، وأن يترك المساحة أكثر للروح والخيالات التي سيواجهها الشخص، معظم هذه الخيالات تكون في منطقة لها علاقة بمشاهدة الشخص موته الشخصي ومروره بالجحيم ... وإحياءه مرة أخري بمعجزة ما .
تأهيل النساء مختلف من ناحية الطقوس ولكنه نفس الفلسفة، هنا يتم تأهيلها لدورها كزوجة أولا ثم كأم، وهناك الكثير من هذه الطقوس عنيف للغاية، وهذه الطقوس في الأغلب مرتبطة زمنيا بالقمر ودورته لأن المرأة هنا جزء من الطبيعة.
في هذه المجتمعات المكون الأساسي هنا هو "السرية"، مجتمعات الرجال محرمة علي النساء، ومجتمعات النساء محرمة علي الرجال،الكاهن يعلم أشياء لا يعلمها الشخص العادي، والمنبع الديني مفتوح لحكيم القبيلة فقط، الطبيعة كانت لا تزال لغز، وكان الإنسان يريد أن يفهم دوره في العالم، ولا يريد السيطرة عليه، هو فقط كان يريد أن يهذب حدسيته ويجعلها أكثر رهافة لاستقبال رسائل العوالم الأخري، كان الغرض من الدين والرحلة هو غرض ميتافزيقي.
كيف يتم نقل هذا البناء "المجتمعي" إلي وسيط موازي "وسيط فني" سنري هذا في ملحمة أخري ..."عصابات نيويورك".
"عصابات نيويورك"
الغموض جزء من "سردية" الملحمة.
في أجزاء مختلفة من أي ملحمة نجد أفعال غير قابلة للتفسير المنطقي وندهش من أفعال الأبطال، ولكن في هذه الأفعال بالتحديد تنفذ "الألهة".
"بيل كاتنج" أو الجزار .. يحدق في "امستردام" محاولا سبر أغواره ومعرفة تاريخه

هذه اللحظة حدثت بعد أن أنقذ "امستردام" الجزار من عملية أغتيال علي يد "ايرلندي" وهم قوم أمستردام 

طوال أحداث ملحمة "عصابات نيويورك" ل"سكورسيزي"تأتي لحظات سرية ،أو استطيع وصفها بلحظات ملغزة، بمعني لحظة يوجد بها سر -لا ينتمي لهذه الأرض-لحظة قدسية 
شخصية "الجزار "طوال الفيلم تأتي بأفعال غير مفهومة، مثلا: لماذا لم يقتل "امستردام" لحظة أن قتل والده، وهو يعلم أن في الأغلب سيكبر الأبن ويأتي للانتقام ، لماذا لم يقتله مرة أخري عندما اكتشف نواياه اكتفي بتشويهه، لماذا لم يقتله مرة أخيرة في معركة النهاية، خصوصا أنه كان لا يراه جيدا من الغبار واكتفي بجرحه في مناطق متفرقة في جسده؟

يقول "الجزار" لـ"أمستردام": القديس فالون -والد امستردام- هو الشخص الوحيد الذي حظي معه بمنازعة شريفة .. هو الشخص الوحيد الذي قتله ويستحق ذكر أسمه. 
يقول له :أنه-القديس فالون- قد تمكن منه-الجزار- قبل ذلك، ولكنه أشاح بوجهه ناحية أخري، فجرحه ولم يقتله وتركه يهرب والعار يجلله بعدها نزع الجزار عينه التي أشاحت عنه وأرسلها للقديس وقال له: إنه كان سيقتلع عينيه الإثنين ولكنه لا يتحمل العمي. 

لحظه هنا وندرك ماذا يقصد "الجزار" بالشرف ،هو يقصد القتال لأسباب غير أرضية،التحرك في الحياة كأنها أسطورة كبيرة، حمل الأجداد في القلب، وهذا ينطبق عليه وعي القديس ...لذلك هو يحترمه بل ويحبه، ولكن ضمن سياق الملحمة والأسطورة التي أرتضوها .. كان يعلمون أنهم لابد من أن يكونوا قاتلين بعضهم البعض ...لا محاله

في أساطير السكان الأصليين، توجد تيمة متكررة، ألا وهي" الحلولية"، عندما يكبر الرجل ويصل لسن الشيخوخة، يلبس ملابس السيدة العجوز ويجلس في بيته منفصلا عن مهام الرجل في القبيلة ،عندما يكون يكون الكائن يملك أعضاء أنثوية وذكورية، يتم التعامل معه كقديس ،لأنه يملك الدورين، يعرف كل شيء لذلك هي ميثيلوجيا فيها أهمية وتعريف ب "الدور" بمعني أن دورك سيتغير في الحياة مع كل زمان ومكان وأنت تبدل أدوارك كأنك علي مسرح كبير
لذلك يكثر الكلام عن نشأة الفن من الدين ذاته. 

لذلك عندما أنقذ "امستردام" "الجزار" من القتل أدرك الجزار أن هذا الشخص تدخل في شئ قدري، وأتي هذا المشهد بعد ذلك، هو أراد أن يعرف قدرة، لأنه يعرف أن من أنقذه من الموت هو من سيقتله، هذا شعور لا تفسير له، لذلك أراد أن يحدق في "امستردام"، أراد أن يستوعبه حتي لا يصاب بالهستريا والجنون. 

في مشهد النهاية عندما يستل "امستردام " خنجرة ويهم بقتل "الجزار"، يري الجزار كل شيء وينظر إليه في عينيه وكأنه يتحداه أن يفعلها  ...
لأنه -فقط بهذه الطريقة-يواجه "الجزار" قدره

""لا تشيح بوجهك أبدا"...أخر كلمات القديس "فالون

الكلمات المفتاحية

                                           
ads
ads
ads